الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
الشرح: قوله: (باب قصة خزاعة) اختلف في نسبهم مع الاتفاق على أنهم من ولد عمر بن لحي باللام والمهملة مصغر وهو ابن حارثة بن عمرو بن عامر بن ماء السماء، وقد تقدم نسبه في أسلم وأسلم هو عم عمرو بن لحي، ويقال إن اسم لحي ربيعة، وقد صحف بعض الرواة فقال عمرو بن يحيى، ووقع مثل ذلك في " الجمع للحميدي " والصواب باللام وتشديد الياء آخره مصغر، ووقع في حديث جابر عند مسلم " رأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك " وفيه تغيير لكن أفاد أن كنية عمرو أبا ثمامة، ويقال لخزاعة بنو كعب، نسبوا إلى جدهم كعب بن عمرو بن لحي، قال ابن الكلبي، : لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم نزل بنو مازن على ماء يقال له غسان، فمن أقام به منهم فهو غساني، وانخزعت منهم عمرو بن لحي عن قومهم فنزلوا مكة وما حولها فسموا خزاعة، وتفرقت سائر الأزد، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت: ولما نزلنا بطن مر تخزعت خزاعة منا في جموع كراكر ووقع في حديث الباب أنه عمرو بن لحي بن قمعة ابن خندف، وهذا يؤيد قول من يقول إن خزاعة من مضر، وذلك أن خندف بكسر المعجمة وسكون النون وفتح الدال بعدها فاء اسم امرأة إلياس بن مضر، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، لقبت بخندف لمشيتها، والخندفة الهرولة، واشتهر بنوها بالنسبة إليها دون أبيهم لأن إلياس لما مات حزنت عليه حزنا شديدا بحيث هجرت أهلها ودارها وساحت في الأرض حتى ماتت، فكان من رأى أولادها الصغار يقول من هؤلاء؟ فيقال بنو خندف. إشارة إلى أنها ضيعتهم، وقمعة بفتح القاف والميم بعدها مهملة خفيفة ويقال بكسر القاف وتشديد الميم. وجمع بعضهم بين القولين أعني نسبة خزاعة إلى اليمن وإلى مضر فزعم أن حارثة بن عمرو لما مات قمعة ابن خندف كانت امرأته حاملا بلحي فولدته وهي عند حارثة فتبناه فنسب إليه، فعلى هذا فهو من مضر بالولادة ومن اليمن بالتبني. وذكر ابن الكلبي أن سبب قيام عمرو بن لحي بأمر الكعبة ومكة أن أمه فهيرة بنت عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي وكان أبوها آخر من ولي أمر مكة من جرهم فقام بأمر البيت سبطه عمرو بن لحي فصار ذلك في خزاعة بعد جرهم، ووقع بينهم في ذلك حروب إلى أن انجلت جرهم عن مكة، ثم تولت خزاعة أمر البيت ثلاثمائة سنة إلى أن كان آخرهم يدعى أبا غبشان بضم المعجمة وسكون الموحدة بعدها معجمة أيضا واسمه المحرش بمهملة ثم معجمة ابن حليل بمهملة ولامين مصغر ابن حبشية بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها معجمة ثم ياء نسب ابن سلول بفتح المهملة ولامين الأولى مضمومة ابن عمرو بن لحي، وهو خال قصي بن كلاب أخو أمه حبي بضم المهملة وتشديد الموحدة مع الإمالة، وكان في عقله شيء فخدعه قصي فاشترى منه أمر البيت بأذواد من الإبل، ويقال بزق خمر، فغلب قصي حينئذ على أمر البيت، وجمع بطون بني فهر وحارب خزاعة حتى أخرجهم من مكة؛ وفيه يقول الشاعر: أبوكم قصي كان يدعي مجمعا به جمع الله القبائل من هر وشرع قصي لقريش السقاية والرفادة، فكان يصنع الطعام أيام منى والحياض للماء، فيطعم الحجيج ويسقيهم، وهو الذي عمر دار الندوة بمكة، فإذا وقع لقريش شيء اجتمعوا فيها وعقدوه بها. الحديث: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ أَبُو خُزَاعَةَ الشرح: قوله: (عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة) أي هو أبو خزاعة، ووقع في رواية أبي نعيم عن إسرائيل بهذا السند عند الإسماعيلي " خزاعة بن قمعة بن عمرو ابن خندف " وفيه تغيير بالتقديم والتأخير؛ وعنده من طريق أبي أحمد الزبيري عن إسرائيل " عمرو أبو خزاعة بن قمعة ابن خندف " وهذا يوافق الأول لكن بحذف لحي، وبأن يعرب ابن قمعة أعراب عمرو لا إعراب أبو خزاعة، وأصوبها الأول، وهكذا روى أبو حصين هذا الحديث عن أبي صالح مختصرا، وأخرجه مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه أتم منه ولفظه " رأيت عمر وبن لحي بن قمعة ابن خندف يجر قصبه في النار " وأورده ابن إسحاق في " السيرة الكبرى " عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي صالح أتم من هذا ولفظه " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، لأنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحامي " ووقع لنا بعلو في " المعرفة " وعند ابن مردويه من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه نحوه، وللحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، لكنه قال: " عمرو بن قمعة " فنسبه إلى جده، وروى الطبراني من حديث ابن عباس رفعه " أول من غير دين إبراهيم عمرو بن لحي بن قمعة ابن خندف أبو خزاعة " وذكر الفاكهي من طريق عكرمة نحوه مرسلا وفيه " فقال المقداد: يا رسول الله من عمرو بن لحي؟ قال: أبو هؤلاء الحي من خزاعة " وذكر ابن إسحاق أن سبب عبادة عمرو بن لحي الأصنام أنه خرج إلى الشام وبها يومئذ العماليق وهم يعبدون الأصنام فاستوهبهم واحدا منها وجاء به إلى مكة فنصبه إلى الكعبة وهو هبل، وكان قبل ذلك في زمن جرهم قد فجر رجل يقال له أساف بامرأة يقال لها نائلة في الكعبة فمسخهما الله جل وعلا حجرين، فأخذهما عمرو بن لحي فنصبهما حول الكعبة، فصار من يطوف يتمسح بهما، يبدأ بأساف ويختم بنائلة. وذكر محمد بن حبيب عن ابن الكلبي أن سبب ذلك أن عمرو بن لحي كان له تابع من الجن يقال له أبو ثمامة فأتاه ليلة فقال: أجب أبا ثمامة، فقال: لبيك من تهامة، فقال: أدخل بلا ملامة، فقال: أيت سيف جدة، تجد آلهة معدة، فخذها ولا تهب، وادع إلى عبادتها تجب. قال فتوجه إلى جدة فوجد الأصنام التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس، وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فحملها إلى مكة ودعا إلى عبادتها فانتشرت بسبب ذلك عبادة الأصنام في العرب، وسيأتي زيادة شرح ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ الشرح: قوله في الرواية الأخرى عن أبي هريرة (عمرو بن عامر الخزاعي) كذا وقع نسبه في حديث ابن مسعود عند أحمد ولفظه " أول من سيب السوائب وعبد الأصنام عمر وبن عامر أبو خزاعة " وهذا مغاير لما تقدم، وكأنه نسب إلى جده لأمه عمرو بن حارثة بن عمرو بن عامر، وهو مغاير لما تقدم من نسبة عمرو بن لحي إلى مضر، فإن عامرا هو ابن ماء السماء بن سبأ وهو جد جد عمرو بن لحي عند من نسبه إلى اليمن، ويحتمل أن يكون نسب إليه بطريق التبني كما تقدم قبل، وسيأتي الكلام على الوصيلة والسائبة وغيرهما في تفسير سورة المائدة إن شاء الله تعالى. الشرح: قوله: (باب قصة إسلام أبي ذر الغفاري) هكذا في رواية أبي ذر عن الحموي وحده، وسقط للباقين، وكأنه أولى لأن هذه الترجمة ستأتي بعد إسلام أبي بكر وسعد وغيرهما. ووقع للأكثر هنا " قصة زمزم " ووجه تعلقها بقصة أبي ذر ما وقع له من الاكتفاء بماء زمزم في المدة التي أقام فيها بمكة، وسيأتي شرح ذلك في مكانه إن شاء الله تعالى. الشرح: قوله: (باب قصة زمزم وجهل العرب) كذا لأبي ذر، ولغيره " باب جهل العرب " وهو أولى إذ لم يجر في حديث الباب لزمزم ذكر، وأما الإسماعيلي فجمع هذه الأحاديث في ترجمة واحدة وهو متجه. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ إِلَى قَوْلِهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ الشرح: قوله: *3* وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ وَقَالَ الْبَرَاءُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الشرح: قوله: (باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية) أي جواز ذلك خلافا لمن كرهه مطلقا فإن محل الكراهة ما إذا أورده على طريق المفاخرة والمشاجرة، وقد روى أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن من حديث أبي ريحانة رفعه " من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا أو كرامة فهو عاشرهم في النار". قوله: (وقال ابن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الكريم ابن الكريم إلخ) تقدم حديث كل منهما موصولا في أحاديث الأنبياء، ووجه دلالته للترجمة أنه لما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم نسبة يوسف عليه السلام إلى آبائه كان دليلا على جواز ذلك لغيره في غيره ويكون ذلك مطابقا لركن الترجمة الأول. قوله: (وقال البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب) هو طرف من حديث تقدم موصولا في الجهاد، وهو في قصة غزوة حنين، ووجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم انتسب إلى جده عبد المطلب فيكون مطابقا لركن الترجمة الثاني. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ بِبُطُونِ قُرَيْشٍ وَ قَالَ لَنَا قَبِيصَةُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ قَبَائِلَ قَبَائِلَ الشرح: قوله: (لما نزلت قوله: (وقال لنا قبيصة إلخ) هو موصول وليس بمعلق، وقد وصله الإسماعيلي من وجه آخر عن قبيصة. قوله: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم قبائل قبائل) قد فسره الذي قبله وأنه كان يسمى رءوس القبائل كقوله يا بني عدي، وأوضح منه حديث أبي هريرة الذي بعده حيث ناداهم طبقة بعد طبقة إلى أن انتهى إلى عمته صفية بنت عبد المطلب وهي أم الزبير بن العوام وإلى ابنته فاطمة عليها السلام، وسيأتي شرح ذلك مبسوطا في تفسير سورة الشعراء. وهذه القصة إن كانت وقعت في صدر الإسلام بمكة فلم يدركها ابن عباس لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولا أبو هريرة لأنه إنما أسلم بالمدينة، وفي نداء فاطمة يومئذ أيضا ما يقتضي تأخر القصة لأنها كانت حينئذ صغيرة أو مراهقة، وإن كان أبو هريرة حضرها فلا يناسب الترجمة لأنه إنما أسلم بعد الهجرة بمدة، والذي يظهر أن ذلك وقع مرتين مرة في صدر الإسلام ورواية ابن عباس وأبي هريرة لها من مرسل الصحابة، وهذا هو الموافق للترجمة من جهة دخولها في مبتدأ السيرة النبوية، ويؤيد ذلك ما سيأتي من أن أبا لهب كان حاضرا لذلك وهو مات في أيام بدر، ومرة بعد ذلك حيث يمكن أن تدعى فيها فاطمة عليها السلام أو يحضر ذلك أبو هريرة أو ابن عباس. *3* الشرح: قوله: (باب ابن أخت القوم منهم، ومولى القوم منهم) أي فيما يرجع إلى المناظرة والتعاون ونحو ذلك، وأما بالنسبة إلى الميراث ففيه نزاع، كما سيأتي بسطه في كتاب الفرائض. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالُوا لَا إِلَّا ابْنُ أُخْتٍ لَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ الشرح: قوله: (إلا ابن أخت لنا) هو النعمان بن مقرن المزني كما أخرجه أحمد من طريق شعبة عن معاوية بن قرة في حديث أنس هذا، ووقع ذلك في قصة أخرى كما أخرجه الطبراني من حديث عتبة بن غزوان " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لقريش: هل فيكم من ليس منكم؟ قالوا لا، إلا ابن أختنا عتبة بن غزوان، فقال: ابن أخت القوم منهم". وله من حديث عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته قال: " ادخلوا علي ولا يدخل علي إلا قرشي، فقال: هل معكم أحد غيركم؟ قالوا: معنا ابن الأخت والمولى، قال حليف القوم منهم ومولى القوم منهم". وأخرج أحمد نحوه من حديث أبي موسى والطبراني نحوه من حديث أبو سعيد. (تنبيه) : لم يذكر المصنف حديث " مولى القوم منهم " مع ذكره في الترجمة، فزعم بعضهم أنه لم يقع له حديث على شرطه فأشار إليه، وفيه نظر لأنه قد أورده في الفرائض من حديث أنس ولفظه " مولى القوم من أنفسهم " والمراد بالمولى هنا المعتق بفتح المثناة أو الحليف، وأما المولى من أعلى فلا يراد هنا، وسيأتي في غزوة حنين بيان سبب حديث الباب، ووقع في حديث أبو هريرة عند البزار مضمون الترجمة وزيادة عليها بلفظ " مولى القوم منهم، وحليف القوم منهم، وابن أخت القوم منهم". وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ الشرح: قوله: (باب قصة الحبش وقول النبي صلى الله عليه وسلم يا بني أرفدة) هو بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الفاء اسم لجد لهم. وقيل: معنى أرفدة الأمة، وقد تقدم شيء من ذلك في أبواب العيدين. والحبش هم الحبشة يقال إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام بن نوح، وهم مجاورون لأهل اليمن يقطع بينهم البحر، وقد غلبوا على اليمن قبل الإسلام وملكوها، وغزا أبرهة من ملوكهم الكعبة ومعه الفيل، وقد ذكر ابن إسحاق قصته مطولة، وأخرجها الحاكم ثم البيهقي من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس ملخصة، وإلى هذا القدر أشار المصنف بذكرهم في مقدمة السيرة النبوية، واستدل قوم من الصوفية بحديث الباب على جواز الرقص سماع آلات الملاهي، وطعن فيه الجمهور باختلاف المقصدين، فإن لعب الحبشة بحرابهم كان للتمرين على الحرب فلا يحتج به للرقص في اللهو، والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب من أحب أن لا يسب نسبه) هو بضم أول يسب والمراد بالنسب الأصل وبالسب الشتم، والمراد أن لا يشتم أهل نسبه. الحديث: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ كَيْفَ بِنَسَبِي فَقَالَ حَسَّانُ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنْ الْعَجِينِ وَعَنْ أَبِيهِ قَالَ ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ لَا تَسُبَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (حدثنا عبدة) هو ابن سليمان، وهشام هو ابن عروة. قوله: (استأذن حسان بن ثابت) أي ابن المنذر بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي، وسبب هذا الاستئذان مبين عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهجوا المشركين فإنه أشد عليهم من رشق النبل، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم، فهجاهم فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان فقال: قد آن لكم أن ترسلوا إلي هذا الأسد الضارب بذنبه. ثم أدلع لسانه فجعل يحركه ثم قال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم، قال لا تعجل " وروى أحمد من حديث كعب بن مالك قال: " قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهجوا المشركين بالشعر، فإن المؤمن يجاهد بنفسه وماله، والذي نفس محمد بيده كأنما تنضحونهم بالنبل " وروى أحمد والبزار من حديث عمار بن ياسر قال: " لما هجانا المشركون قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لهم كما يقولون لكم". قوله: (كيف بنسبي فيهم) أي كيف تهجو قريشا مع اجتماعي معهم في نسب واحد؟ وفي هذا إشارة إلى أن معظم طرق الهجو العض بالآباء. قوله: (لأسلنك منهم) أي لأخلصن نسبك من نسبهم بحيث يختص الهجو بهم دونك. وفي رواية أبي سلمة المذكور " فقال: ائت أبا بكر فإنه أعلم قريش بأنسابها حتى يخلص لك نسبي " فأتاه حسان، ثم رجع فقال: قد محض لي نسبك. قوله: (كما تسل الشعرة من العجين) أشار بذلك إلى أن الشعرة إذا أخرجت من العجين لا يتعلق بها منه شيء لنعومتها، بخلاف ما إذا سلت من العسل مثلا فإنها قد يعلق بها منه شيء، وأما إذا سلت من الخبز فإنها قد تنقطع قبل أن تخلص. قوله: (وعن أبيه) هو موصول بالإسناد المذكور إلى عروة وليس بمعلق، وقد أخرجه المصنف في الأدب عن محمد بن سلام عن عبدة بهذا الإسناد فقال فيه: " وعن هشام عن أبيه " فذكر الزيادة، وكذلك أخرجه في " الأدب المفرد " قوله: (كان ينافح) بكسر الفاء بعدها مهملة ومعناها يدافع أو يرامي، قال الكشميهني في رواية أبي ذر عنه. نفحت الدابة إذا رمحت بحوافرها، ونفحه بالسيف إذا تناوله من بعيد، وأصل النفح بالمهملة الضرب، وقيل للعطاء نفح كأن المعطي يضرب السائل به، ووقع في رواية أبي سلمة المذكورة " قالت عائشة فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله " قالت وسمعته يقول: " هجاهم حسان فشفى وأشفى " وقد تقدم في أوائل الصلاة ما يدل على أن المراد بروح القدس جبريل عليه السلام، ويأتي الكلام على الشعر وأحكامه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. *3* وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ وَقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ الشرح: قوله: (باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل: وقد خص بسورة الحمد وبلواء الحمد وبالمقام المحمود، وشرع له الحمد بعد الأكل وبعد الشرب وبعد الدعاء وبعد القدوم من السفر، وسميت أمته الحمادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه صلى الله عليه وسلم. الحديث: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْنٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ الشرح: قوله: (عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه) كذا وقع موصولا عند معن بن عيسى عن مالك. وقال الأكثر " عن مالك عن الزهري عن محمد بن جبير " مرسلا، ووافق معنا على وصله عن مالك جويرية بن أسماء عند الإسماعيلي ومحمد بن المبارك وعبد الله بن نافع عند أبو عوانة، وأخرجه الدار قطني في " الغرائب " عن آخرين عن مالك. وقال: إن أكثر أصحاب مالك أرسلوه. قلت: وهو معروف الاتصال عن غير مالك، وصله يونس بن يزيد وعقيل ومعمر وحديثهم عند مسلم، وشعبة وحديثه عند المصنف في التفسير، وابن عيينة عند مسلم أيضا والترمذي كلهم عن الزهري، ورواه عن جبير بن مطعم أيضا ولده الآخر نافع وفي حديثه زيادة، وعند المصنف في التاريخ، وأخرجه أحمد وابن سعد وصححه الحاكم، وفي الباب عن أبي موسى الأشعري عند مسلم والمصنف في التاريخ، وعن حذيفة عند المصنف في التاريخ والترمذي وابن سعد، وعن ابن عباس وأبي الطفيل عند ابن عدي، ومن مرسل مجاهد عند ابن سعد، وسأذكر ما في رواياتهم من زيادة فائدة. قوله: (عن محمد بن جبير) في رواية شعيب المذكورة عن الزهري " أخبرني محمد بن جبير". قوله: (لي خمسة أسماء) في رواية نافع بن جبير عند ابن سعد أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: أتحصي أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير بن مطعم يعدها؟ قال: نعم، هي ست. فذكر الخمسة التي ذكرها محمد بن جبير وزاد الخاتم، لكن روى البيهقي في " الدلائل " من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري في حديث محمد بن جبير بن مطعم " وأنا العاقب " قال يعني الخاتم، وفي حديث حذيفة " أحمد ومحمد والحاشر والمقفي ونبي الرحمة " وكذا في حديث أبي موسى إلا أنه لم يذكر الحاشر، وزعم بعضهم أن العدد ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذكره الراوي بالمعنى، وفيه نظر لتصريحه في الحديث بقوله: " إن لي خمسة أسماء " والذي يظهر أنه أراد أن لي خمسة أسماء أختص بها لم يسم بها أحد قبلي، أو معظمة أو مشهورة في الأمم الماضية، لا أنه أراد الحصر فيها. قال عياض: حمى الله هذه الأسماء أن يسمى بها أحد قبله، وإنما تسمى بعض العرب محمدا قرب ميلاده لما سمعوا من الكهان والأحبار أن نبيا سيبعث في ذلك الزمان يسمى محمدا فرجوا أن يكونوا هم فسموا أبناءهم بذلك، قال: وهم ستة لا سابع لهم، كذا قال. وقال السهيلي في " الروض " لا يعرف في العرب من تسمى محمدا قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: محمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن أحيحة بن الجلاح، ومحمد بن حمران بن ربيعة. وسبق السهيلي. إلى هذا القول أبو عبد الله بن خالويه في كتاب " ليس " وهو حصر مردود، وقد جمعت أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين لكن مع تكرر في بعضهم ووهم في بعض، فيتلخص منهم خمسة عشر نفسا، وأشهرهم محمد بن عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي السعدي، روى حديثه البغوي وابن سعد وابن شاهين وابن السكن وغيرهم من طريق العلاء بن الفضل عن أبيه عن جده عبد الملك بن أبي سوية عن أبيه عن أبي سوية عن أبيه خليفة بن عبدة المنقري قال: " سألت محمد بن عدي بن ربيعة كيف سماك أبوك في الجاهلية محمدا؟ قال سألت أبي عما سألتني فقال: خرجت رابع أربعه من بني تميم أنا أحدهم وسفيان بن مجاشع ويزيد بن عمرو بن ربيعة وأسامة بن مالك، بن حبيب بن العنبر نريد ابن جفنة الغساني بالشام، فنزلنا على غدير عند دير، فأشرف علينا الديراني فقال لنا: إنه يبعث منكم وشيكا نبي فسارعوا إليه، فقلنا ما اسمه؟ قال: محمد. فلما انصرفنا ولد لكل منا ولد فسماه محمدا لذلك " انتهى وقال ابن سعد " أخبرنا علي بن محمد عن مسلمة بن محارب عن قتادة بن السكن قال: كان في بني تميم محمد بن سفيان بن مجاشع، قيل لأبيه إنه سيكون نبي في العرب اسمه محمد فسمى ابنه محمدا " فهؤلاء أربعة ليس في السياق ما يشعر بأن فيهم من له صحبة إلا محمد بن عدي. وقد قال ابن سعد لما ذكره في الصحابة: عداده في أهل الكوفة، وذكر عبدان المروزي أن محمد بن أحيحة بن الجلاح أول من تسمى في الجاهلية محمدا، وكأنه تلقى ذلك من قصة تبع لما حاصر المدينة وخرج إليه أحيحة المذكور هو والحبر الذي كان عندهم بيثرب فأخبر الحبر أن هذا بلد نبي يبعث يسمى محمدا فسمى ابنه محمدا. وذكر البلاذري منهم محمد بن عقبة بن أحيحة، فلا أدري أهما واحد نسب مرة إلى جده أم هما اثنان. ومنهم محمد بن البراء البكري ذكره ابن حبيب، وضبط البلاذري أباه فقال: محمد بن بر بتشديد الراء ليس، بعدها ألف ابن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ولهذا نسبوه أيضا العتواري. وغفل ابن دحية فعد فيهم محمد بن عتوارة وهو هو نسب لجده الأعلى. ومنهم محمد بن اليحمد الأزدي ذكره المفجع البصري في كتاب " المعقد " ومحمد بن خولي الهمداني وذكره ابن دريد. ومنهم محمد بن حرماز بن مالك اليعمري ذكره أبو موسى في الذيل. ومنهم محمد بن حمران بن أبي حمران واسمه ربيعة بن مالك الجعفي المعروف بالشويعر ذكره المرزباني فقال: هو أحد من سمي محمدا في الجاهلية، وله قصة مع امرئ القيس. ومنهم محمد بن خزاعي بن علقمة بن حرابة السلمي من بني ذكوان ذكره ابن سعد عن علي بن محمد عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال: سمي محمد بن خزاعي طمعا في النبوة. وذكر الطبري أن أبرهة الحبشي توجه وأمره أن يغزو بني كنانة فقتلوه فكان ذلك من أسباب قصة الفيل. وذكره محمد بن أحمد بن سليمان الهروي في كتاب " الدلائل " فيمن تسمى محمدا في الجاهلية. وذكر ابن سعد لأخيه قيس بن خزاعي يذكره من أبيات يقول فيها: فذلكم ذو التاج منا محمد ورايته في حومة الموت تخفق ومنهم محمد بن عمرو بن مغفل بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الفاء ثم لام وهو والد هبيب بموحدتين مصغر وهو على شرط المذكورين فإن لولده صحبة ومات هو في الجاهلية. ومنهم محمد بن الحارث بن حديج بن حويص ذكره أبو حاتم السجستاني في " كتاب المعمرين " وذكر له قصة مع عمرو وقال: إنه أحد من سمي في الجاهلية محمدا. ومنهم محمد الفقيمي، ومحمد الأسيدي، ذكرهما ابن سعد ولم ينسبهما بأكثر من ذلك، فعرف بهذا وجه الرد على الحصر الذي ذكره السهيلي، وكذا الذي ذكره القاضي، وعجب من السهيلي كيف لم يقف على ما ذكره عياض مع كونه كان قبله، وقد تحرر لنا من أسمائهم قدر الذي ذكره القاضي مرتين بل ثلاث مرار فإنه ذكر في الستة الذين جزم بهم محمد بن مسلمة، وهو غلط فإنه ولد بعد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة ففضل له خمسة وقد خلص لنا خمسة عشر والله المستعان. قوله: (وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر) قيل المراد إزالة ذلك من جزيرة العرب، وفيه نظر لأنه وقع في رواية عقيل ومعمر " يمحو بي الله الكفرة " ويجاب بأن المراد إزالة الكفر بإزالة أهله، وإنما قيد بجزيرة العرب لأن الكفر ما انمحى من جميع البلاد، وقيل: إنه محمول على الأغلب أو أنه ينمحي بسببه أولا فأولا إلى أن يضمحل في زمن عيسى ابن مريم فإنه يرفع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، وتعقب بأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس؛ ويجاب بجواز أن يرتد بعضهم بعد موت عيسى وترسل الريح فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة فحينئذ فلا يبقى إلا الشرار. وفي رواية نافع بن جبير " وأنا الماحي فإن الله يمحو به سيئات من اتبعه " وهذا يشبه أن يكون من قول الراوي. قوله: (وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي) أي على أثري أي أنه يحشر قبل الناس، وهو موافق لقوله في الرواية الأخرى: " يحشر الناس على عقبي " ويحتمل أن يكون المراد بالقدم الزمان أي وقت قيامي على قدمي بظهور علامات الحشر، إشارة إلى أنه ليس بعده نبي ولا شريعة. واستشكل التفسير بأنه يقضي بأنه محشور فكيف يفسر به حاشر وهو اسم فاعل، وأجيب بأن إسناد الفعل إلى الفاعل إضافة والإضافة تصح بأدنى ملابسة، فلما كان لا أمة بعد أمته لأنه لا نبي بعده نسب الحشر إليه لأنه يقع عقبه، ويحتمل أن يكون معناه أنه أول من يحشر كما جاء في الحديث الآخر " أنا أول من تنشق عنه الأرض " وقيل معنى القدم السبب، وقيل المراد على مشاهدتي قائما لله شاهدا على الأمم. ووقع في رواية نافع بن جبير " وأنا حاشر بعثت مع الساعة " وهو يرجح الأول. (تنبيه) : قوله: " على عقبي " بكسر الموحدة مخففا على الإفراد، ولبعضهم بالتشديد على التثنية والموحدة مفتوحة. قوله: (وأنا العاقب) زاد يونس بن يزيد في روايته عن الزهري " الذي ليس بعده نبي. وقد سماه الله رءوفا رحيما " قال البيهقي في " الدلائل " قوله: " وقد سماه الله إلخ " مدرج من قول الزهري. قلت: وهو كذلك وكأنه أشار إلى ما في آخر سورة براءة. وأما قوله: " الذي ليس بعده نبي " فظاهره الإدراج أيضا، لكن وقع في رواية سفيان بن عيينة عند الترمذي وغيره بلفظ " الذي ليس بعدي نبي " ووقع في رواية نافع بن جبير أنه عقب الأنبياء؛ وهو محتمل للرفع والوقف. ومما وقع من أسمائه في القرآن بالاتفاق " الشاهد المبشر النذير المبين الداعي إلى الله السراج المنير " وفيه أيضا: " المذكر والرحمة والنعمة والهادي والشهيد والأمين والمزمل والمدثر " وتقدم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " المتوكل"، ومن أسمائه المشهورة " المختار والمصطفى والشفيع المشفع والصادق المصدوق " وغير ذلك قال ابن دحية في تصنيف له مفرد في الأسماء النبوية: قال بعضهم أسماء النبي صلى الله عليه وسلم عدد أسماء الله الحسنى تسعة وتسعون اسما، قال: ولو بحث عنها باحث لبلغت ثلاثمائة اسم، وذكر في تصنيفه المذكور أماكنها من القرآن والأخبار وضبط ألفاظها وشرح معانيها واستطرد كعادته إلى فوائد كثيرة، وغالب الأسماء التي ذكرها وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد الكثير منها على سبيل التسمية، مثل عده اللبنة بفتح اللام وكسر الموحدة ثم النون في أسمائه للحديث المذكور في الباب بعده في القصر الذي من ذهب وفضة إلا موضع لبنة قال: " فكنت أنا اللبنة " كذا وقع في حديث أبي هريرة، وفي حديث جابر " موضع اللبنة " وهو المراد. ونقل ابن العربي في شرح الترمذي عن بعض الصوفية أن لله ألف اسم ولرسوله ألف اسم، وقيل: الحكمة في الاقتصار على الخمسة المذكورة في هذا الحديث أنها أشهر من غيرها موجودة في الكتب القديمة وبين الأمم السالفة. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ الشرح: قوله: (سفيان) هو ابن عيينة. قوله: (عن أبي الزناد) في رواية " حدثنا أبو الزناد". قوله: (ألا تعجبون) في رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عند المصنف في التاريخ " يا عباد الله انظروا " وله من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ " ألم تروا كيف " والباقي سواء. قوله: (يشتمون مذمما) كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح فيعدلون إلى ضده فيقولون مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا فعل الله بمذمم، ومذمم ليس هو اسمه ولا يعرف به فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفا إلى غيره. قال ابن التين: استدل بهذا الحديث من أسقط حد القذف بالتعريض وهم الأكثر خلافا لمالك، وأجاب بأنه لم يقع في الحديث أنه لا شيء عليهم في ذلك بل الواقع أنهم عوقبوا على ذلك بالقتل وغيره انتهى. والتحقيق أنه لا حجة في ذلك إثباتا ولا نفيا، والله أعلم. واستنبط منه النسائي أن من تكلم بكلام مناف لمعنى الطلاق ومطلق الفرقة وقصد به الطلاق لا يقع، كمن قال لزوجته كلي وقصد الطلاق فإنها لا تطلق، لأن الأكل لا يصلح أن يفسر به الطلاق بوجه من الوجوه، كما أن مذمما لا يمكن أن يفسر به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام بوجه من الوجوه. *3* الشرح: قوله: (باب خاتم النبيين) أي أن المراد بالخاتم في أسمائه أنه خاتم النبيين، ولمح بما وقع في القرآن، وأشار إلى ما أخرجه في التاريخ من حديث العرباض بن سارية رفعه " إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته " الحديث، وأخرجه أيضا أحمد وصححه ابن حبان والحاكم فأورد فيه حديثي أبي هريرة وجابر ومعناهما واحد وسياق أبي هريرة أتم، ووقع في آخر حديث جابر عند الإسماعيلي من طريق عفان عن سليم بن حيان " فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ وَيَقُولُونَ لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الشرح: قوله: (مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا) قيل: المشبه به واحد والمشبه جماعة فكيف صح التشبيه؟ وجوابه أنه جعل الأنبياء كرجل واحد، لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذلك الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان، ويحتمل أن يكون من التشبيه التمثيلي وهو أن يوجد وصف من أوصاف المشبه ويشبه بمثله من أحوال المشبه به، فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس ببيت أسست قواعده ورفع بنيانه وبقي منه موضع به يتم صلاح ذلك البيت، وزعم ابن العربي أن اللبنة المشار إليها كانت في أس الدار المذكورة وأنها لولا وضعها لانقضت تلك الدار، قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور انتهى. وهذا إن كان منقولا فهو حسن وإلا فليس بلازم، نعم ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها وقد وقع في رواية همام عند مسلم " إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها " فيظهر أن المراد أنها مكملة محسنة وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها كان ناقصا، وليس كذلك فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة. قوله: (لولا موضع اللبنة) بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها نون وبكسر اللام وسكون الموحدة أيضا هي القطعة من الطين تعجن وتجبل وتعد للبناء ويقال لها ما لم تحرق لبنة، فإذا أحرقت فهي آجرة. وقوله: (موضع اللبنة) بالرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي لولا موضع اللبنة يوهم النقص لكان بناء الدار كاملا، ويحتمل أن تكون " لولا " تحضيضية وفعلها محذوف تقديره لولا أكمل موضع اللبنة. ووقع في رواية همام عند أحمد " ألا وضعت هاهنا لبنة فيتم بنيانك". وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين، وأن الله ختم به المرسلين، وأكمل به شرائع الدين. *3* الشرح: قوله: (باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم) كذا وقعت هذه الترجمة عند أبي ذر وسقطت من رواية النسفي ولم يذكرها الإسماعيلي، وفي ثبوتها هنا نظر فإن محلها في آخر المغازي كما سيأتي، والذي يظهر أن المصنف قصد بإيراد حديث عائشة هنا بيان مقدار عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا خصوص زمن وفاته وأورده في الأسماء إشارة إلى أن من جملة صفاته عند أهل الكتاب أن مدة عمره القدر الذي عاشه، وسيأتي نقل الخلاف في مقداره في آخر المغازي إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِثْلَهُ الشرح: قوله: (قال ابن شهاب وأخبرني سعيد بن المسيب مثله) أي مثل ما أخبر عروة عن عائشة، وقول ابن شهاب موصول بالإسناد المذكور، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب بالإسنادين معا مفرقا وهو من مرسل سعيد بن المسيب، ويحتمل أن يكون سعيد أيضا سمعه من عائشة رضي الله عنها. *3* الشرح: قوله: (باب كنية النبي صلى الله عليه وسلم) الكنية بضم الكاف وسكون النون مأخوذة من الكناية تقول: كنيت عن الأمر بكذا إذا ذكرته بغير ما يستدل به عليه صريحا. وقد اشتهرت الكنى للعرب حتى ربما غلبت علي الأسماء كأبي طالب وأبي لهب وغيرهما، وقد يكون للواحد كنية واحدة فأكثر، وقد يشتهر باسمه وكنيته جميعا، فالاسم والكنية واللقب يجمعها العلم بفتحتين، وتتغاير بأن اللقب ما أشعر بمدح أو ذم، والكنية ما صدرت باب أو أم، وما عدا ذلك فهو اسم. كان النبي صلى الله عليه وسلم يكنى أبا القاسم بولده القاسم وكان أكبر أولاده، واختلف هل مات قبل البعثة أو بعدها، وقد ولد له إبراهيم في المدينة من مارية، ومضى شيء من أمره في الجنائز. وفي حديث أنس أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم " السلام عليك يا أبا إبراهيم". الحديث: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي الشرح: حديث أنس أورده مختصرا وقد مضى في البيوع بأتم منه، وفيه أن الرجل قال له لم أعنك، وحينئذ نهى عن التكني بكنيته. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي الشرح: حديث جابر وسالم الراوي عنه هو ابن الجعد، وأورده أيضا مختصرا وقد مضى في الخمس بأتم منه أيضا، وقوله في أوله: " حدثنا محمد بن كثير حدثنا شعبة " كذا للأكثر. وفي رواية أبي علي بن السكن " سفيان " بدل شعبة، ومال الجياني إلى ترجيح الأكثر فإن مسلما أخرجه من طريق شعبة عن منصور. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي الشرح: حديث أبي هريرة، قوله: (قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم) كذا وقع في هذه الطريق وهو لطيف، وتقدم في العلم بلفظ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد اختلف في جواز التكني بكنيته صلى الله عليه وسلم فالمشهور عن الشافعي المنع على ظاهر هذه الأحاديث، وقيل: يختص ذلك بزمانه، وقيل بمن تسمى باسمه، وسيأتي بسط ذلك وتوجيه هذه المذاهب في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ ابْنَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ جَلْدًا مُعْتَدِلًا فَقَالَ قَدْ عَلِمْتُ مَا مُتِّعْتُ بِهِ سَمْعِي وَبَصَرِي إِلَّا بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ خَالَتِي ذَهَبَتْ بِي إِلَيْهِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي شَاكٍ فَادْعُ اللَّهَ لَهُ قَالَ فَدَعَا لِي الشرح: قوله: (باب) كذا للأكثر بغير ترجمة كأبي ذر وأبي زيد من رواية القابسي عنه وكريمة، وكذا للنسفي، وجزم به الإسماعيلي، وضمه بعضهم إلى الباب الذي قبله ولا تظهر مناسبته له، ولا يصلح أن يكون فصلا من الذي قبله، بل هو طرف من الحديث الذي بعده، ولعل هذا من تصرف الرواة، نعم وجهه بعض شيوخنا بأنه أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ذا اسم وكنية لكن لا ينبغي أن ينادي بشيء منهما بل يقال له يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما خاطبته خالة السائب لما أتت به إليه، ولا يخفى تكلفه. قوله: (جلدا) بفتح الجيم وسكون اللام أي قويا صلبا. قوله: (ابن أربع وتسعين) يشعر بأنه رآه سنة اثنتين وتسعين، لأنه كان له يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين كما ثبت من حديثه، ففيه رد لقول الواقدي إنه مات سنة إحدى وتسعين، على أنه يمكن توجيه قوله، وأبعد من قال مات قبل التسعين، وقد قيل: إنه مات سنة ست وتسعين وهو أشبه، قال ابن أبي داود: هو آخر من مات من الصحابة بالمدينة. وقال غيره بل محمود بن الربيع، وقيل: بل محمود بن لبيد فإنه مات سنة تسع وتسعين. الشرح: قوله: (باب خاتم النبوة) أي صفته، وهو الذي كان بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان من علاماته التي كان أهل الكتاب يعرفونه بها، وادعى عياض هنا أن الخاتم هو أثر شق الملكين لما بين كتفيه، وتعقبه النووي فقال: هذا باطل، لأن الشق إنما كان في صدره وبطنه، وكذا قال القرطبي، وأثره إنما كان خطا واضحا من صدر إلى مراق بطنه كما في الصحيحين، قال: ولم يثبت قط أنه بلغ بالشق حتى نفذ من وراء ظهره، ولو ثبت للزم عليه أن يكون مستطيلا من بين كتفيه إلى قطنته، لأنه الذي يحاذي الصدر من سرته إلى مراق بطنه، قال: فهذه غفلة من هذا الإمام، ولعل ذلك وقع من بعض نساخ كتابه فإنه لم يسمع عليه فيما علمت، كذا قال، وقد وقفت على مستند القاضي وهو حديث عتبة بن عبد السلمي الذي أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان بدء أمرك؟ فذكر القصة في ارتضاعه في بني سعد، وفيه أن الملكين لما شقا صدره قال أحدهما للآخر: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة انتهى. فلما ثبت أن خاتم النبوة كان بين كتفيه حمل ذلك عياض على أن الشق لما وقع في صدره ثم خيط حتى التأم كما كان ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر الشق، وفهم النووي وغيره منه أن قوله بين كتفيه متعلق بالشق، وليس كذلك بل هو متعلق بأثر الختم، ويؤيده ما وقع في حديث شداد بن أوس عند أبي يعلى والدلائل لأبي نعيم " أن الملك لما أخرج قلبه وغسله ختم ثم أعاده عليه بخاتم في يده من نور فامتلأ نورا " وذلك نور النبوة والحكمة، فيحتمل أن يكون ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر لأن القلب في تلك الجهة. وفي حديث عائشة عند أبي داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة والدلائل لأبي نعيم أيضا أن جبريل وميكائيل لما تراءيا له عند المبعث " هبط جبريل فسلقي لحلاوة القفا ثم شق عن قلبي فاستخرجه ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم أعاده مكانه ثم لأمه ثم ألقاني وختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم في قلبي وقال: اقرأ " الحديث، هذا مستند القاضي فيما ذكره، وليس بباطل، ومقتضى هذه الأحاديث أن الخاتم لم يكن موجودا حين ولادته، ففيه تعقيب على من زعم أنه ولد به، وهو قول نقله أبو الفتح اليعمري بلفظ " قيل: ولد به وقيل: حين وضع " نقله مغلطاي عن يحيى بن عائذ، والذي تقدم أثبت. ووقع مثله في حديث أبي ذر عند أحمد والبيهقي في الدلائل وفيه: " وجعل خاتم النبوة بين كتفي كما هو الآن " وفي حديث شداد بن أوس في المغازي لابن عائد في قصة شق صدره وهو في بلاد بني سعد بن بكر " وأقبل وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه " الحديث، وهذا قد يؤخذ منه أن الختم وقع في موضعين من جسده والعلم عند الله. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقَعَ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ وَتَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتِمٍ بَيْنَ كَتِفَيْهِ قَالَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحُجْلَةُ مِنْ حُجَلِ الْفَرَسِ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن عبيد الله) بالتصغير، هو أبو ثابت المدني مشهور بكنيته، والإسناد كله مدنيون، وأصل شيخه حاتم بن إسماعيل كوفي. قوله: (ذهبت بي خالتي) لم أقف على اسمها، وأما أمه فاسمها علبة - بضم المهملة وسكون اللام بعدها موحدة - بنت شريح أخت مخرمة بن شريح. قوله: (وقع) بفتح الواو وكسر القاف وبالتنوين أي وجع وزنه ومعناه، وقد مضى في الطهارة بلفظ وجع، وجاء بلفظ الفعل الماضي مبنيا للفاعل، والمراد أنه كان يشتكي رجله كما ثبت في غير هذا الطريق. قوله: (فمسح رأسي ودعا لي بالبركة) سيأتي شرحه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. قوله: (فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه) في حديث عبد الله بن سرجس عند مسلم أنه كان إلى جهة كتفه اليسرى. قوله: (قال ابن عبيد الله الحجلة من حجل الفرس الذي بين عينيه وقال إبراهيم بن حمزة مثل زر الحجلة) قلت: هكذا وقع، وكأنه سقط منه شيء لأنه يبعد من شيخه محمد بن عبيد الله أن يفسر الحجلة ولم يقع لها في سياقه ذكر، وكأنه كان فيه مثل زر الحجلة ثم فسرها، وكذلك وقع في أصل النسفي تضبيب بين قوله: " بين كتفيه " وبين قوله: " قال ابن عبيد الله " وأما التعليق عن ابن إبراهيم بن حمزة فالمراد أنه روى هذا الحديث كما رواه محمد بن عبيد الله إلا أنه خالف في هذه الكلمة، وسيأتي الحديث عنه موصولا بتمامه في كتاب الطب. وقد زعم ابن التين أنها في رواية ابن عبيد الله بضم المهملة وسكون الجيم. وفي رواية ابن حمزة بفتحهما، وحكى ابن دحية مثله وزاد في الأول كسر المهملة مع ضمها، وقيل: الفرق بين رواية ابن حمزة وابن عبيد الله أن رواية ابن عبيد الله بتقديم الزاي على الراء على المشهور، ورواية ابن حمزة بالعكس بتقديم الراء على الزاي، وهو مأخوذ من ارتز الشيء إذا دخل في الأرض، ومنه الرزة، والمراد بها هنا البيضة يقال ارتزت الجرادة إذا أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض، وعلى هذا فالمراد بالحجلة الطير المعروف، وجزم السهيلي بأن المراد بالحجلة هنا الكلة التي تعلق على السرير ويزين بها للعروس كالبشخانات، والزر على هذا حقيقة لأنها تكون ذات أزرار وعرى، واستبعد قول ابن عبيد الله بأنها من حجل الفرس الذي بين عينيه بأن التحجيل إنما يكون في القوائم، وأما الذي في الوجه فهو الغرة، وهو كما قال إلا أن منهم من يطلقه على ذلك مجازا، وكأنه أراد أنها قدر الزر، وإلا فالغرة لا زر لها. وجزم الترمذي بأن المراد بالحجلة الطير المعروف، وأن المراد بزرها بيضها، ويعضده ما سيأتي أنه مثل بيضة الحمامة، وقد وردت في صفة خاتم النبوة أحاديث متقاربة لما ذكر هنا، منها عند مسلم عن جابر بن سمرة " كأنه بيض حمامة " ووقع في رواية ابن حبان من طريق سماك بن حرب " كبيضة نعامة " ونبه على أنها غلط وعن عبد الله بن سرجس " نظرت خاتم النبوة جمعا عليه خيلان " وعند ابن حبان من حديث ابن عمر " مثل البندقة من اللحم " وعند الترمذي " كبضعة ناشزة من اللحم " وعند قاسم بن ثابت من حديث قرة بن إياس " مثل السلعة " وأما ما ورد من أنها كانت كأثر محجم، أو كالشامة السوداء أو الخضراء، أو مكتوب عليها " محمد رسول الله " أو " سر فأنت المنصور " أو نحو ذلك، فلم يثبت منها شيء وقد أطنب الحافظ قطب الدين في استيعابها في " شرح السيرة " وتبعه مغلطاي في " الزهر الباسم " ولم يبين شيئا من حالها، والحق ما ذكرته، ولا تغتر بما وقع منها في صحيح ابن حبان فإنه غفل حيث صحح ذلك والله أعلم. قال القرطبي: اتفقت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر قدره إذا قلل قدر بيضة الحمامة وإذا كبر جمع اليد والله أعلم. ووقع في حديث عبد الله بن سرجس عند مسلم أن خاتم النبوة كان بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى، وفي حديث عباد بن عمرو عند الطبراني كأنه ركبة عنز على طرف كتفه الأيسر ولكن سنده ضعيف، قال العلماء: السر في ذلك أن القلب في تلك الجهة، وقد ورد في خبر مقطوع أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان فرأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه الأيسر حذاء قلبه له خرطوم كالبعوضة، أخرجه ابن عبد البر بسند قوي إلى ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز، فذكر. وذكره أيضا صاحب " الفائق " في مصنفه في م ص ر، وله شاهد مرفوع عن أنس عند أبي يعلى وابن عدي ولفظه " أن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم " الحديث، وأورد ابن أبي داود في " كتاب الشريعة " من طريق عروة بن رويم " أن عيسى عليه السلام سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم، قال فإذا برأسه مثل الحية واضع رأسه على تمرة القلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا غفل وسوس". قلت: وسيأتي لهذا مزيد في آخر التفسير، قال السهيلي: وضع خاتم النبوة عند نغض كتفه صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع يدخل منه الشيطان.
|